قصة انتقال عشائر وقبائل الزبيد من منطقة نجد وحائل إلى منطقة الفرات
تم نقل القصة بالكامل دون أي تعديل من كتاب "عشائر الغنامة في الفرات الأوسط" للفرنسي "هنري شارل" الذي كان في منطقة الفرات الأوسط من سنة 1936 إلى 1938 ولد في 5/12/1900 و توفي في 28/11/1978 ، والذي ترجم الكتاب ونقله إلى العربية الدكتور مسعود ضاهر
كان الأخوان جابر و جبرين بدويين يرعيان أغنامهما قرب آبار واحة العقدة في نجد . وكان لهما نسيبان أصغر سنا منهما ليست لهما مشورة في مجلس الشيوخ أو المشايخ .كان أحدهما يدعى علي السالم والآخر تامر . وكان لجبرين سبع بنات أكبرهن تدعى موزة وهي الوحيد التي حفظت القرآن صغيرة ، يوم كانت لا تزال تجلس على ركبتي أبيها .
ذات مساء قال جابر : (إن حفظ القرآن ليس مستحبا للنساء) . فاعتبر أخوه جبرين تلك الملاحظة بمثابة إهانة توجه إليه شخصيا ، فحل أوتاد خيامه وارتحل عن نجد . أثناء ترحاله كان فتح بئرا ليرتوي مع ماشيته من مائها ، عاد فطمر البئر بعناية حتى لا يستطيع أحد أن يقتفي آثاره ، وظل على ترحاله دون توقف حتى وصل إلى غيضة وارفة الظلال على الفرات ، في مكان ليس بعيدا عن أبو كمال الحالية حيث نصب خيامه . أما بناته الجميلات فقد لبثن خلف ستائر خيامهن ، كما تقتضي تقاليد الشيخات .
كان من الطبيعي أن يثير هذا التستر مكامن النفس لدى أبناء الشيخ بركة ، شيخ الناحية ، فسارعوا إلى طلب أيدي البنات للزواج . وعندما كلمهن جبرين بالأمر أجبنه بصوت واحد : ( لن نتزوج هؤلاء الشبان ، وحبذا لو نعود مسرعين إلى أبناء عمنا في نجد ) .
عندما جاء الشيخ بركة وأبناه لتناول القهوة ، ألحوا بمعرفة الجواب ، وقالوا : ( على العموم ، إذا لم تزوجنا بناتك فسنستل سيوفنا ونأخذهن بالقوة ) . فرد جبرين : ( لا حاجة لمثل هذا الكلام ! أريدكم فقط أن تصبروا قليلا ريثما أبيع بعض الخراف والصوف حتى يتسنى لنا إقامة الأعراس التي تليق بهن ، ولو بالحد الأدنى !) .
في الواقع ، استعد جبرين للرحيل دون ضجة . فجهز جماله ، وقلع خيامه في ليلة لا قمر فيها . وفي الصباح عندما جاء الفتيان وهم على أتم ما تكون الزينة لتناول القهوة واختلاس النظر إلى البدويات الجميلات لم يجدوا لهن أثرا .
عندئذ أدركوا أنهم خدعوا فزمجروا بأعلى صوتهم : ( إلى الركاب ، إلى الغزو ) . وجدوا السير في تعقب خطى جبرين وبناته . ولم يبذلوا كبير عناء حتى وجدوا الهاربين فقتلوا جبرين على الفور ووزعوا بناته سبايا . عندئذ صرخ أحد العاشقين من أبناء الشيخ بركة : ( فليأخذ كل منا خطيبته ، ولنعد إلى أهلنا نقيم الأعراس وسط خيامنا ! ) .
فردت موزة : ( دعونا على الأقل نكمل فترة الحداد على والدنا القتيل ! ) فصرخ الشاب : ( وكم يلزمكن من الوقت لذلك؟ ) . أجابت موزة : (أربعين نهارا وأربعين ليلة ) .ثم دعت شقيقاتها للمجيء إلى خيمتها وعدم الخروج منها .
لم يكن لدى الشباب ما يضيفونه فتركوهن ينزوين في خيمتهن . ثم لف الرجال جسد المسكين جبرين في بساط . وأوثقوا الجثة بحبال الخيم ثم حفروا حفرة على بعد أمتار ودفنوه فيها وغطوا القبر بالحجارة .
آنذاك كانت موزة تفرغ حزنها في أبيات من الشعر دونتها على رق من الجلد : ((الدموع تجري كالسيل على الوجنات . .. ونحن هنا في الشمال عن أهل النسب مقطوعات ، ، ضربونا بعيدان النبلات … ضربونا بعرض السيوف وأخذونا عالقطا أسيرات ،، أبطالنا ماتوا لكن بعد ما قتلوا من الأعداء تسعة . جبرين مات يا عين صبي الدمع على جبرين ،، جبرين ياللي كان مأوى للأيتام .. جبرين ياللي كان يطعم كل جيعان ،،، جبرين باللي كان يكرم بالغار كل كاتب القصدان… وين الربع يا ناس يقوموا يأخذوا بالثار ،،، وين الأهل يحررونا ويمحوا العار … وين النشامة وينهم ، نحن نساكم يا أولاد العم ))
ثم قامت إلى الحنية ، ناقة السبق التي كانت لأبيها وأسرجتها ودست الرق مع جدائل شعرها وشعر شقيقاتها في الكيس الذي يحمي ضرع الناقة من ابنها الرضيع قبل الفطام . ثم قبلت موزة الناقة على شفتيها الطريتين ودفعتها إلى خارج الخيام .
مدفوعة بغريزتها الحيوانية ، جدًت الناقة السير باتجاه نجد حتى وصلت إلى جوار حائل ومن ثم إلى عقدة التي كانت لجابر وجبرين .
وأصيب الناس بالدهشة لمشاهدة الناقة وحدها خاصة في عائلة جابر وفي أوساط أنسبائهم علي و تامر . و كان ضرع الناقة قد تورم لكثرة الحليب فيه . وعندما حاولوا فك الضرع سقط الرق وجدائل الفتيات .
وفيما كانت النسوة تولولن ، كان رجال القبيلة قد اجتمعوا على الفور وبدأوا المشورة فيما بينهم .
علينا أن ننطلق الآن للثأر وغسل العار .
أليس الأمر صعبا ؟
علينا دعوة جيراننا قبيلة طي .
هذا مستحيل رد تامر ، النسيب الأصغر لابن رشيد فبيننا وبين طي دماء . أنسيتم قتلانا وقد بلغ عددهم ستة وستين رجلا ؟ وأنت يا جابر هل نسيت يدك التي قطعوها من الإبط ؟
يكفي فلنعلن القسم بأننا سندفن ذلك الصراع .
مهلا قال علي السالم ، فرخ العقاب الأمرد ، فأنا لن أقسم على ذلك .
صرخ تامر: ( طريقك هي طريقي يا علي ، فأنا أيضا لن أقسم على ذلك ) .
كتب جابر إلى قبيلة طي لكي يلتحق فرسانها بفرسان عشيرته ويجدوا السير طلباً للثأر من مقتل جبرين . وقد أشهد الله على نفسه أن يدفن جميع خلافاتهم السابقة .
وما إن بدأ الركب بالتحرك حتى أعلم على وتامر شيوخ قبيلة طي بأنهما يحفظان العهد لثلاثة أيام فقط . بعد ذلك فليس هناك قسم يلزمهما ، بل إن من واجب كل منهم العمل على قتلهم ثأرا للقتلى الستة والستين الذين سقطوا في الاشتباك الأخير بين القبيلتين وليد جابر المقطوعة .
وما لبث مشايخ طي أن اغتنموا فرصة حلول الظلام حتى انسحبوا وأكمل جابر الطريق مع فرسانه منفردين .
وتساءل الجميع : كيف يتجهون ؟ . وكان الجواب أن ابحثوا عن الناقة التي حملت الرسالة وأطلقوها من عقالها لتسير على هواها واتبعوها .
وهكذا كان . فقد اهتدت الناقة إلى الآبار التي مر بها جبرين في رحلته السابقة والتي غطت فوهاتها بعناية فائقة .
لاحظ تامر أن الناقة بدأت تعطي إشارات تؤكد اقترابها من مكان فصيلها الصغير .
ذات صباح ، استيقظ تامر عند الفجر . كان الجميع ما زالوا نياما مشى وحيدا خلف الناقة التي اهتدت الى مكان فصيلها وقد وضع في مخيم ليس ببعيد عن مخيم الأعداء . فهجم تامر على الحرس وقتلهم وحرر بنات عمه السبايا وأعادهن الى حيث الربع النجدي مخيما .
غضب جابر لأنه لم يبلغ بالخطة وأراد الانتقام من تامر لكن موزة رجته بالصفح عنه ووقف علي السالم الى جانبه . وهكذا تم وأد النزاع في المهد وقرَ رأي الجميع على الاستقرار في الرقعة التي خيموا فيها .
كانت المنطقة ذات طبيعة رائعة وكانت أرضها خصبة وفيها قمح كثير بالمقابل كان عليهم دفع قبيلة بركة والبدو التابعين لها عن تلك الأرض . فكان لا بد من ركوب المخاطرة .
)) سأعطي ابنة أخي موزة عروسا لمن يقتل بركة )) قال الشيخ جابر . ثم أردف : ( لكن مثل هذا العمل يحتاج إلى فرسان أشداء . وعلى الفتيان الذين لم يحلقوا ذقونهم بعد أن يبقوا في المضارب قرب الخيام . وأنت يا فتى - مخاطبا علي - عليك بالتزام ما نصحتك به ) .
)عفوا ، قال علي - لقد وجد ت الموسى طريقها إلى ذقني ) ثم تناول الموسى وغرز شفرتها في لحم وجنتيه حتى سال الدم منهما .
هكذا اكتسب علي الحق بشجاعته فدعي إلى لحضور مجلس العشيرة فيما كانت موزة التي سمعت الحديث بكامله تقدم العلف لفرسه كي يلتحق بركب المقاتلين ويشارك في الانتقام من بركة . وما إن انبلج الصباح حتى كان علي أول من امتشق سيفه طلباً للثأر . وما إن وقعت عينه على بركة حتى سدد إليه رمحه فأرداه قتيلا . ثم قفز عن جواده واتجه صوب الجثة الممدة على الأرض وسحب سكينه من جيبه وفتح فم القتيل وقطع لسانه ووضعه في جيبه . ثم امتطى صهوة جواده ليكمل المعركة .
لكن العبد سلامة ، عبد الشيخ جابر أبصر جثة بركة ممددة على الأرض فقال في نفسه : ( يا للخبر السار ) ثم نزل عن جواده وقطع رأس القتيل ووضعه في كيسه .
في المساء سرت في الخيام أخبار العبد سلامة الذي أحضر رأس بركات ، وتجرأ على طلب يد موزة ابنة شيخ نجد من عمها .
السم خير من هذا الزواج ! قالت موزة لأخته غُرُة
ثم انطلقت نحو جرن تدق فيه مزيجا ناعما من السم القاتل
مهلا ، صرخ علي وقد دخل خيمة المجلس لتوه بعد أن سمع صوت المدقة وفهم كل شئ . ثم التفت نحو العبد سلامة ونهره على مسمع من الحاضرين : (أنت تدعي أنك قتلت بركة ؟ )
نعم رد سلامة واليك رأسه ! ثم أخرج الرأس من كيسه وتركه يتدحرج على أرض الخيمة أمام الحاضرين
(أتعتقد أن هذا الرأس بات عاجزا عن كشف دناءتك وفضح أمرك لأنه أخرس وليس له لسان ؟ مع ذلك فهو سيتكلم أبلغ الكلام الذي فيه إدانتك) . ثم رمى باللسان أمام الفم الدامي على بساط الخيمة .
وبضربة ملؤها الحقد والاحتقار والحقد قطع رأس العبد سلامة بسيفه وتركه يتدحرج على البساط قرب رأس بركة .
خذ قالت غرًة التي دخلت خيمة المجلس لتوها ، هذه هي النصلة التي اخترقت قلب بركة وانتزعها منه تامر ثم انصرفت بحشمة بالغة لتلتحق بأختها موزة خلف الستار ودعتها لترك جرن السم . وما لبثت الفتاتان أن عقدتا ضفائرهما وأطلقتا صوتهما بزغردات الفرح .
هكذا تحول المساء إلى حفلة عامرة احتفاء بالنصر وبعقد قران موزة على علي وغرة على تامر .
مرت الأيام فإذا بجابر ينكفئ نحو الشمال بعد صداقة مع جماعة علي وتحول جابر لأرومة عشائر الغنامة التي سكنت شعاب الخابور وهي تعرف اليوم باسم عشيرة الجبور .
واتجه تامر نحو إلى جنوب البوكمال فتحول إلى الجد الأعلى لعشيرة الدليم الممتدة ما بين منطقة القائم حتى بساتين النخيل في عانة .
أما جماعة علي فكانت الأقوى والأكثر عددا . وقد تفرعت منها أفخاذ كثيرة منها البوكامل والبوكمال والشعيطات والثلث والبو خابور والبكيَر واليهم تنتسب غالبية الفروع الصغيرة والضعيفة المتبقية من قبائل الفرات